الجمعة، 13 ديسمبر 2013



مقدمة كتاب الدكتور حيدر ابراهيم على الجديد (2-2)


*فالتاريخ لن ينتظر للأبد حتى يتعلم السودانيون*

ظل الفكر السياسي السوداني يردد التعريف – الإكليشيه: “الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب”. وبسبب هذا التبسيط والكسل الفكري، لم تزود التجارب الديمقراطية السودانية بأطر نظرية ومفاهمية واضحة تحكم العمل السياسي، ويسترشد بها. ولذلك، ركن السياسيون لعملية التجربة والخطأ (trial and error). وللأسف كانت الأخطاء منذ الاستقلال أكثر من الصواب. وكان لابد أن تتعثر التجارب الديمقراطية بسبب ممارساتها العفوية والعشوائية. ومما زاد الأمر سوءا، أن صفة (السياسي) ظلت مرتبطة بمعنى الدهاء، “والحداقة”، والخبث، والمكر. وهذا هو الفهم الأكثر انتشاراً. وحين يقول الإنسان العادي: “فلان سياسي”، في الظروف اليومية العادية، فهو يقصد أن هذا الشخص يمتع بقدرات الخروج من المواقف الصعبة بشتى الطرق دون أن يؤذي نفسه وأحياناً دون أن يؤذي الآخرين، رغم أنه لا مانع من إيذائهم لضمان عدم الفشل. وظل السياسيون أسرى هذا الفكر الدارج والثقافة السياسية الشعبية، وهي تعبير محلي عن مبدأ: “الغاية تبرر الوسيلة”. وفي هذا تأكيد أكثر لبراقماتية أو ذرائعية السياسة السودانية.
ضمن هذا الفهم البراقماتي غير الصادق في إيمانه بالديمقراطية، نرصد ظاهرة غريبة تتمثل في انضمام الحزبيين للنظم الدكتاتورية، أو المشاركة في هياكلها المزيفة لكل أشكال المشاركة الشعبية الحقيقية والبعيدة عن الديمقراطية. والمتابع لتاريخ النظم العسكرية يكتشف ضعف الحس الديمقراطي وسطحية الانتماء الديمقراطي. ففي انقلاب 17 نوفمبر 1958 قام حزب الأمة بهندسة الانقلاب وعملية التسليم والتسلم. وبعدها وقع الختمية مذكرة كرام المواطنين المؤيد لنظام عبود العسكري. ثم ما لبث الحزب الشيوعي السوداني أن شارك في انتخابات المجلس المركزي. أما انقلاب 25 مايو 1969 فلم يكن الشيوعيون واليساريون عموماً بعيدين عن الانقلاب والذي شقهم عام 1970 ثم غدر بهم عام 1971 وأخيرا دخلت الأحزاب في مصالحة عام 1977 مع النميري. وقام الإسلاميون ممثلون في الجبهة الإسلامية القومية بانقلاب 30 يونيو 1989 وحلوا البرلمان الذي مثلوا فيه القوة الثالثة ولهم 51 نائباً. وانسلخ عدد من القيادات الحزبية التقليدية وانضمت للسلطة الجديدة. وحدث كثير من الانقسامات، وتحول الناطق الرسمي للتجمع الوطني الديمقراطي المعارض إلى الناطق الرسمي لحزب (المؤتمر الوطني) الحاكم، كما أن الرجل الثالث في القيادة الشرعية المعارضة جاء للخرطوم وزيرا ثم حاكما لإقليم. وحاولت بعض الأحزاب الدخول في مصالحة وطنية كما حدث مع (النميري) عام 1977، ولكن هذا النظام مختلف. لذلك، كانت اللقاءات مع النظام في جيبوتي وجدة، تبعتها اتفاقية نيفاشا والقاهرة. واختلطت مجدداً الشمولية مع توجهات الأحزاب الداعية للديمقراطية، تحت مبررات الوحدة الوطنية والمهددات المحيطة، والتخويف بـ”الصوملة”.
يتشكك البعض في جدوى الديمقراطية في السودان بسبب الحلقة الشيطانية التي حكمت مسيرة الديمقراطية. حيث تكررت البرلمانات والانقلابات والانتفاضات مع استمرار تدني مستوى قوى الديمقراطية وتأثيرها على الحياة السياسية. وصار الحديث عن هذه الدائرة أو الدورة الشيطانية، يبدو وكأنه حتمية تاريخية أو قدر إغريقي أشبه بصخرة سيزيف والتي يرفعها الشعب كل مرة لقمة الجبل لتسقط مرة أخرى. فقد اتسمت الفترات الديمقراطية بالعجز والانشغال بالصراعات الحزبية الضيقة، مما أدى لدمغ الديمقراطية بالفشل. وهذا اتهام قد يجد قبولا، خاصة حين نعلم أن كل الجمعيات التأسيسية المنتخبة منذ الاستقلال لوضع دستور دائم، لم تنجز هذه المهمة أبدا. وتواجه التجربة الديمقراطية السودانية عددا من المشكلات المزمنة والتي تحولت إلى معضلات وأزمات، ومن أهم القضايا وأكثرها تأثيرا، ما يلي:
 أولا، علاقة الدين بالسياسة والدولة فقد تمازج الدين مع السياسة بدءا مع تشكل الحزبين الكبيرين على أسس طائفية أو طرائقية. فقد انتهت المعركة بين الطائفية الدينية والخريجين بانتصار الطائفية. وكانت المرحلة الثانية هي دعوة (الإخوان المسلمين) للدولة الدينية من خلال الدعوة لتطبيق الشريعة والدستور الإسلامي. فقد احتكرت طائفتا الختمية والأنصار (الحزب الاتحادي وحزب الأمة) البرلمانات والحكومات منذ الاستقلال. فهما القوة المهيمنة على السلطة السياسية بلا منازع، إلا حين تستولي على السلطة مجموعة عسكرية عن طريق القوة. وقد كان الانقلاب الحالي آخر أشكال زواج الدين والدكتاتورية العسكرية. وكان (الأخوان المسلمون) هم مُنظّري الحزبين التقليديين من أجل عمل مشترك يهدف لتطبيق مشروع الدستور الإسلامي، وفي نفس الوقت محاربة الشيوعية لحسابهم الخاص أو ضمن استراتيجيات الحرب الباردة. فالكيانات السياسية الثلاثة قامت على أسس دينية، ودعوا لسلطة دينية. وكانت اختلافاتهم شكلية مثل: تكون الجمهورية الإسلامية برلمانية أم رئاسية؟ واستغل (الأخوان المسلمون) شعبية الحزبين في تمرير أجندتهم مثل حل الحزب الشيوعي وتمرير مشروع الدستور الإسلامي حتى أوقفه انقلاب 25 مايو 1969. ومن الجدير بالذكر أن (الإخوان المسلمين) أدخلوا البلاد في هذا النفق المظلم مبكرا حين فرضوا السؤال الخطأ على القوى السياسية: دولة إسلامية دينية أم مدنية؟
ثانيا، دور المؤسسة العسكرية أو الجيش في الحياة السياسية والذي ظل لاعبا أساسيا. وهذا الوضع يمكن فهمه من خلال طبيعة النشاط السياسي في السودان. إذ تنشط كل الأحزاب وبالذات العقائدية منها، في الأوساط الطلابية منذ المدارس الثانوية. فالاتحادات الطلابية تتم الانتخابات فيها على أسس حزبية وليست نقابية بحتة. ومن بين هؤلاء الطلاب المسيسين ينخرط بعضهم في الكلية الحربية مع احتفاظهم بانتماءات حزبية. وكان من الطبيعي أن يكون للأحزاب عناصر في القوات المسلحة، وأن تكون الخلايا السرية داخل الجيش. وقد اعتمدت كل الأحزاب تقريبا على الجيش في حسم النزاعات الصعبة، وجربت توظيف دور الجيش كما ظهر في كل الانقلابات وحتى المحاولات. ولذلك، ينفي العسكريون عن أنفسهم تهمة الميول الانقلابية، ويدينون الأحزاب التي تستعين بالجيش حين تعجز عن حل صراعاتها بالوسائل الديمقراطية. ومن ناحية أخرى، أعلت الحرب الأهلية في الجنوب من دور العسكريين في الحياة السياسية. وقد جعلوا من تضحياتهم مدخلا للاهتمام بالسياسة، وحاولوا استغلال فكرة “غياب البديل الحزبي”، بالإضافة لصفات فوضى المدنيين التي تؤدي للفشل والعجز.
ثالثا، قضية الوحدة الوطنية والتكامل القومي، فقد فشلت الحكومات الوطنية في إدارة التنوع الذي يميز السودان بثقافاته المتعددة. فقد تعرضت بعض المناطق لتهميش سياسي واقتصادي وثقافي. وقد تطابق هذا التهميش مع أقاليم جغرافية وإثنية معينة مما زاد من تعقيد المشكلة. فقد تركزت التنمية في مناطق السودان الوسطي الشمالي النيلي، وهي ثقافيا ذات طابع عربي/إسلامي. وبقيت المناطق الأخرى مهمشة ومهملة وهي في الغالب ذات ثقافات زنجية/إفريقية تدين بالمسيحية والأديان الإحيائية أو الطبيعية. ورغم أنني أرجع هذا التهميش لغياب خطط تنموية مستقلة وعادلة بسبب غياب الرؤية السياسية، أكثر من الأسباب العنصرية والإثنية المتعمدة، إلا أن الصراع تحول إلى صراع إثني بالكامل. وما يمكن تسميته بأثننة (ethnicization) الصراع السياسي/التنموي، مما أدى إلى تعميم النزاعات في كثير من مناطق الهامش، والتي لجأت للكفاح المسلح مع انسداد الأفق الديمقراطي.
أدى الشعور بالغبن واللامساواة إلى ابتعاد أبناء هذه المناطق المتعلمين عن الأحزاب التقليدية، وإنشاء كيانات سياسية إقليمية تستند على مطالب تطوير مناطقهم. وتفرض هذه التطورات ضرورة الدعوة لقيام دولة سودانية حديثة مدنية أساسها حقوق المواطنة فقط، وشعارها: الدين لله والوطن للجميع. وهذه هي إحدى ضمانات أي تحول ديمقراطي مستدام، أي إصرار على الدولة!! هو شرعنة لتهميش غير المسلمين والعرب. ويرتبط استقرار السودان بإعمال شعار: الوحدة في التنوع.
رابعا، الفشل التنموي والأزمة الاقتصادية، والذي قد يكون مقتل الديمقراطيات المتتالية. إذ يبدو أن لعنة “تحرير لا تعمير” التي استهل بها عهد الاستقلال قد لازمت التطور السياسي في البلاد. فمن الملاحظ أن النظم المنتخبة لم تول هذه الأمر اهتماما خاصا، رغم الوعود التي تنثر في الحملات الانتخابية. واستمر إفقار الريف، والعجز عن تلبية الحاجات الأساسية؛ مما جعل الديمقراطية خاوية المضمون. ولم تعد الديمقراطية “الليبرالية” في نسختها السودانية، قادرة على حل التناقض بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، أو معادلة الخبز والحرية. ولابد من الإقرار بصعوبة تعايش الديمقراطية مع الفقر والتخلف، لأن الاختيار الحر يقتضي التحرر من العوز، والأمية، والمرض. كما أنه مع التخلف تصبح الديمقراطية مجرد ممارسة موسمية خالية من عمق الثقافة الديمقراطية الحقيقية.
يستعد السودان هذه المرة لتجربة ديمقراطية جديدة مهما تأخر وقتها، ويمكن القول بأن المعطيات والتطورات السابقة والراهنة – سوف تجعلها الأخيرة. فالتاريخ لن ينتظر للأبد حتى يتعلم السودانيون، خاصة وأن الأخطاء السابقة كانت فادحة للغاية ولا يمكن أن تتكرر، فالناس لم تعد لديها القدرة ولا الرغبة على تقديم تضحيات كبيرة من أجل أهداف لم تتحقق في الماضي. وهذا التحدي يتطلب وعياً كافياً بالتجارب السابقة من أجل إنجاح التجربة القادمة، وسيكون على رأس مهام المرحلة القادمة مواجهة المعضلات الأربع السابقة ببرنامج قومي تلتف حوله القوى الديمقراطية بقناعة صادقة باعتبارها كتلة تاريخية قادرة على تحمل مسؤولياتها الوطنية. فقد أنهكت النزاعات العرقية والطبقية مع الفساد، والعنف، وتشرذم الأحزاب، القوى الديمقراطية. يضاف إلى  كل ذلك، ضعف المهارات والقدرات التنظيمية. وتمثل كل هذه العناصر المكونات الأساسية لأي ثقافة سياسية ديمقراطية راسخة. وفي محاولات تجنب فشل الديمقراطية الليبرالية، بصورة نهائية، يطرح البعض فكرة الديمقراطية التوافقية. وفي هذه الحالة، قد تجد مقاربة (آرنت ليبهارت) الاهتمام، والتي تشمل عنصر مثل: قاعدة واسعة لحكومة لا يحتكرها حزب الأغلبية – كما جرت العادة في النظم الليبرالية. يضاف لذلك مبدأ التمثيل النسبي بطريقة أفضل من المحاصصة ويشمل هذا: مجلس الوزراء، والإدارة، والمؤسسات.
والأهم من كل ذلك، أن يقوم قانون الانتخابات على هذا المبدأ. كما يفضل نظام الحكم الذاتي في حالة الدول متعددة الثقافات والأقاليم، أو حتى تطبيق الفدرالية لتوزيع السلطة والثروة بعيدا عن المركزية.

الأربعاء، 11 ديسمبر 2013



مقدمة كتاب الدكتور حيدر ابراهيم على الجديد 1/2))
الديمقراطية فى السودان

مقدمـة
مازال البحث عن معنى متفق عليه للديمقراطية يشغل الجميع في أنحاء العالم. ولكن يمكن القول بان معايير معينة وجدت قدراً معيناً من الإجماع، باعتبار أن وجود هذه المعايير أو بعض منها، في مجتمع معين يجعله في اتجاه القرب من الديمقراطية المعيارية، وتقترح عدد من المصادر الهامة عن الديمقراطية بعض المعايير التي ترى أنها حين تــستوفى في أي مؤسسة يمكن أن نطلق عليها صفة الديمقراطية. ومن أهم هذه الشروط: المشاركة الفعالة، المساواة في التصويت، الفهم المستنير للبرامج والبدائل، تضمين كل من لهم الحق فى التصويت. ويبدو أن هذا هو المعنى الكلاسيكي للديموقراطية الذي روج له الرواد أمثال لوك ومونتسكيو، وأسموه الحكم بالرضى. وأهم ما في هذه المعايير هو أنها تحقق المساواة في الحقوق والواجبات، ومن وسائلها الانتخابات والتي ينتج عنها حكم الأغلبية أو الأكثرية. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال إخضاع الأقلية أو تهميشها. ويكتمل هذا المعنى من خلال تحقيق نتائج مرغوب فيها، مثل: تجنب الاستبداد، ضمان الحقوق الأساسية، الحرية العامة، تحقيق الذات أي الحرية الفردية، المسؤولية الأخلاقية، التنمية البشرية، حماية المصالح الشخصية الأساسية، المساواة السياسية، بالإضافة إلى تحقيق السلام والرخاء.
رغم أي اختلاف في المعنى أو حتى حول فعالية الديمقراطية، فقد صارت مبدأ إنسانيا عاما، وممارسة سياسية عالمية. لذلك، يبقي التبرير القائل بخصوصية بعض المجتمعات مما يجعل الديمقراطية غير ملائمة لثقافتها وقيمها، مجرد لغو لا يسنده منطق أو عقل. فقد يمكن الحديث عن آليات بعينها مثل التعدد الكبير في الأحزاب أو نظام انتخابي؛ بأنها غير ملائمة لظروف البلاد. وفي هذه الحالة قد تكون المشكلة أساسا في الآليات ووسائل التطبيق والممارسة، ولكن ليس في المبدأ أو الفكرة. ففي مجتمعات عديدة يكون فشل التجارب الديمقراطية بسبب عدم تكوين المؤسسات والنظم القادرة على تطبيق مطلوبات البناء الديمقراطي الذي يحقق الممارسة الصحيحة. كما يمكن ظهور قصور في القوانين المسيرة للعملية الديمقراطية وصيانتها. ولذلك، لابد من تأكيد فكرة أن علاج سلبيات الديموقراطية هو بمزيد من الديمقراطية. وقد تمثلت أزمة الحكم في السودان في غياب الفعالية أو درجة الحكم مع عدم وجود الاستقرار. ويضيف البعض إلى ذلك، ضعف الثقة المتبادلة بين المواطنين مع عدم متانة الولاء القومي بسبب النزاعات الداخلية.
يبدو من الغريب أن يتساءل المرء في مطلع القرن الحادي والعشرين: لماذا نختار الديمقراطية نظاما للحكم؟ لم يخلُ تاريخ الديمقراطية من تشككية حين وصفت بأنها أحسن النظم السيئة للحكم. وفي الحالة السودانية يمكن أن يأخذ التساؤل شكلاً آخر مكملاً للسؤال السابق، مع افتراض أن الإجابة قد جاءت بنعم: ألا تظنون أن السودانيين رغم اختيارهم المتكرر للديمقراطية، قد أساءوا لها باستمرار حين طبقوها ثم فرطوا فيها أكثر من مرة؟ فقد ركن السودانيون إلى أسطورة مريحة، تلك التي تقول بان السوداني ديمقراطي بطبعه أو بفطرته. وهذا ما يجعل حماية وتطوير الديمقراطية السودانية، عملية لا تحتاج لعقلنة وتدخل، ولكن تترك لحتمية التاريخ أو لطبيعة الأشياء أو القانون الطبيعي. ونتيجة لهذا الفهم، ضعف الاهتمام بكل أشكال المنهجية، والقصدية، والتنظيم، والوعي، وبناء الأسس المطلوبة لحماية الديمقراطية خاصة حين تهددها الانقلابات أو المؤامرات الحزبية. وقد تعرضت “طبيعية” أو”فطرية” الديمقراطية السودانية لاختبارات عدة أظهرت كثيرا من تناقضاتها. إذ يتخذ أصحاب فكرة “الفطرية” من اندلاع الانتفاضات الشعبية لإسقاط النظم الدكتاتورية، دليلا على صحة نظريتهم. ولكنهم في نفس الوقت لا يفسرون عدم تنفيذ ميثاق الدفاع عن الديمقراطية الذي وقعته كل الأحزاب الديمقراطية الرئيسية عام 1986 والذي يقضي بمقاومة أي انقلاب، والقضاء عليه في مهده.
تكاد تكون الديمقراطية السودانية قد خلت من كثير من المعايير المطلوبة والمرغوبة، عدا حق التصويت وطقوسية الانتخابات. بحيث يمكن أن نكتفي بأن نطلق عليها تسمية “البرلمانية السودانية” فقط. فقد ارتكزت الديمقراطية السودانية على نموذج وستمنستر البريطاني، والذي يهتم بصوت واحد لشخص واحد، وفي هذا تعبير عن الفردية التي تقدسها البورجوازية. ولكن في حالتنا، قد يصبح مثل هذا الحق معطلاً في حقيقته، مع ظروف الفقر والجهل أي أن يكون الحق مكفولاً بينما الظروف الموضوعية تحول دون ممارسة صحيحة لهذا الحق، فعلياً. ففي بلد تصل الأمية فيه أكثر من 70%، لا يمكن أن نتوقع اختيارا حرا جاء نتيجة دراسة برامج المرشحين والأحزاب. كما أن الولاءات الطائفية المطلقة والانتماءات القبلية، تمثل قيودا متينة على الحريات التي تكفلها الديمقراطية. وأخطر ما في التجربة السودانية هو أن قوانين الانتخابات لا تحقق تمثيلا واسعا لرغبات الشعب السوداني. فعلى سبيل المثال، نلاحظ في انتخابات عام 1986 أن الحزبين الكبيرين نالا حوالي مليونين ونصف من الأصوات أعطتهم أكثر من مائة وستين معقداً في البرلمان مكنتهم من الحكم مؤتلفين. ويمكن القول أن نسبة المشاركة في أحسن الأحوال لم تكن تزيد عن ربع الذين يحق لهم التصويت.
ومن ناحية أخرى، لم تتحقق النتائج المرغوبة للديمقراطية، مثل الرضى والمساواة. ولذلك، كان من الطبيعي أن تستمر الحرب الأهلية في فترات الديمقراطيات، طالما عجزت الأنظمة المتعاقبة عن تحقيق التنمية العادلة، والسلام والوحدة الوطنية. ولم تكن محاولات النظم الديمقراطية المنتخبة في مجال التنمية في مستوى الوعود الانتخابية وهذا النقض بالعهود سمة عامة للأحزاب أو طبيعة لا تقتصر على علاقتها مع الجنوبيين فقط. ولكن بسبب فهمها للسياسة وعدم قناعتها بالديمقراطية الحقيقية وليست الشكلانية.
اهتم السياسيون السودانيون عموما، بالديمقراطية العملية، فهم دخلوا مباشرة في الممارسة، ولم يهتموا بالكتابات والتنظير في الديمقراطية نفسها كمفهوم ونظرية متكاملة. ومن هنا جاءت علة الثقافة السياسية الديمقراطية كما يظهر في عدم الاهتمام بدقة المفاهيم، وعدم وجود نماذج استرشادية (Paradigms). والسودان مليء بالسياسيين، ولكن لم يظهر زعيم قومي مفكر يُنظــّر وينظم الجماهير ويحركها. وفي الخاطر الهند ونهرو لتشابه الظروف المعقدة. وكانت الغلبة للعمل السياسي المباشر على حساب الفكر السياسي. وسادت الشكلانية أو الشكلية والتجريد والرومانسية على مفهوم الديمقراطية. ولم يترك جيل الرواد (ممن كتبوا مذكراتهم) أدبيات نظرية في الديمقراطية، وحتى فترة الاستقلال وما بعده. ويظهر في كتاباتهم الاهتمام بالنتائج العملية/النفعية (البراقماتية) لأي سلوك سياسي، وبالتالي اعتبر تحقيق الاستقلال بهذه السهولة إنجازاً كبيراً ونجاحاً لا يضارى. ولم يُطالب السياسيون بعد الاستقلال بأكثر مما حدث. واستمرت توجهات عدم الاهتمام بالتنظير والذي أصبح –في معظم الأحيان– صفة سيئة السمعة. وكثيراً ما نسمي في معنى التحقير أو التهكم: “إن فلاناً منظراتي ساكت”، وقد يكون السبب منطقياً، حين يتوقف هذا الفلان عند مرحلة التنظير فقط. وحدثت عملية تقسيم عمل غير مقصودة – بين النظريين والعمليين- وكأن لكل منهم مملكته. وظل أغلب الساسة السودانيين يفضلون الطريقة العملية البلدية في تسيير الأمور السياسية، مؤكدين عدم الحاجة لتطويل التنظير. وقد يرددون المثل السوداني، أن السياسة تتطلب – حسب قولهم – “أمسك ليّ واقطع ليك!”
لكل ما تقدم، يواجه أي باحث في الديمقراطية السودانية إشكالية غياب مرتكزات فكرية ونظرية واضحة لدى السياسيين الرواد الذين حكموا منذ الاستقلال. وهنا لابد من التساؤل عن المبررات البديلة التي قدموها في دفاعهم عن ضرورة الديمقراطية في السودان، أو أسباب خيارهم الديمقراطي. إذ يلاحظ أنه مع ضمور التفكير والتنظير، تبرز براقماتية تعتمد على البحث عن خصائص وسمات مميزة في الإنسان والمجتمع السودانيين. وتبرر ضرورة الديمقراطية بأسباب تعود إلى التكوين الفطري أو الطبيعي الموروث -كما أسلفنا- وليس بحكم الثقافة، والاكتساب، والتفكير. فهناك قناعات ومقولات جاهزة وثابتة لدي النخبة السودانية، تردد أحكاما تقول بأن: “الفرد السوداني ديمقراطي بالفطرة أو بطبعه”؛ أو أحياناً: “المجتمع السوداني ديمقراطي بالفطرة”، أو: “طريقة علاقاتنا ديمقراطية تلقائيا”. ولكن هذه المسلمات كثيراً ما تقابلها في فترات الدكتاتوريات تصورات مضادة تماما تستخدم ضمنيا نفس فكرة الطبيعة السودانية بطريقة معكوسة. فقد يردد هؤلاء أحكاما، مثل:” الديمقراطية غير صالحة للسودانيين لأنهم ميالون بطبعهم للفوضى”. ويرى هؤلاء أن الدكتاتورية في السودان، ليست وضعا شاذا، ولا ضد طبيعة الأشياء. ومن المؤكد أن مقولة “طبيعة الإنسان السوداني” فرضية كسولة تبرر الميل لعدم الكتابة والتفكير العفوي، وتكرس الشفاهة والكلام المرسل.
حاولت الأحزاب التي تسمي العقائدية بالذات الاشتراكية والقومية، أن تخرج من هذا النمط السائد. ويعود ذلك لحداثة الأفكار والطروحات التي تقدمها في الواقع السوداني، مما يتطلب عملا أكبر في الشرح والإقناع. وقامت هذه الأحزاب الجديدة المتهمة في قوة اقتناعها بالديمقراطية الليبرالية، بجهد نسبي في التنظير والكتابة المختلفة. فقد ظهرت شذرات في وصف الديمقراطية الجديدة، والتفريق بين الديمقراطية البرجوازية ودكتاتورية البروليتاريا، خاصة بين الشيوعيين. كما كتب قوميون عن الديمقراطية الموجهة أو الجبهات الوطنية التقدمية وفق النموذجين السوري والعراقي. وبشر أنصار اللجان الشعبية بالديمقراطية المباشرة من خلال المؤتمرات الشعبية، أو “اللجان في كل مكان”. وفي الأخيرة يزاوج أو يقارن المجددون أو الإصلاحيون الإسلاميون بين الديمقراطية والشورى. ولكن يكاد الفكر السياسي السوداني يفتقر تماما إلى كتب أصيلة مكرسة تماما لموضوع الديمقراطية عامة، ثم تعمل على تطبيق نتائجها وفرضياتها على الواقع السوداني. 
(منقول من صحيفة حريات اللإلكترونية)

الاثنين، 9 ديسمبر 2013

*بأملنا وبي عملنا وبالمحنة وبي وفاء النيل في دمانا نبني جنة* روشتة فنانا الكبير عبد الكريم الكابلي كانت وماتزال صالحة لبناء الوطن العظيم السودان. المدونة وطن وعمل ومحنة ووفاء رد جزء صغير من الجميل الكبير في رقابنا لهذا الوطن *أصلنا ومبتدانا وحلاة مسرح صبانا وزكرياتنا ومشتهانا* وللمدونة أمل عريض للمساهمة في تعمير بيتنا الكبير السودان وتنقية اجواءه واعتدال مزاجه وتقبل المدونة الفكرة والدراسة والامال العريضة وحتي شطحات الخيال فنحن نسابق الزمن للحاق بركب الامم *لنبتهج نحن وصغارنا ونتغني* .